بعد أكثر من عقد على انتفاضات الربيع العربي، لا تزال أغلب آمال وطموحات التغيير لدى الشعوب المنتفضة معلقة.
في نظرة سريعة لواقع الحال، طغت الأزمات الحقوقية، والإنسانية، والسياسية مع ازدياد العنف بأشكال مختلفة، وسيطرة السلطات الأبوية والذكورية وازدياد التسلح والعسكرة. ووسط ذلك كله، تستمر النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في نضالهن ضد التمييز والإقصاء الممنهجين في جميع مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية.
في سوريا، حيث لطالما استُبعدت النساء من القوى العاملة، زادت ظروف الحروب من أعبائهن المضاعفة، والإمعان في إقصائهن، بينما جاءت معظم جهود التمكين الاقتصادي غير مرضية.
يقدم هذا المقال نظرة نسوية نقدية لمحاولات منظمات المجتمع المدني في سوريا للتصدي لاستبعاد النساء من الاقتصاد الرسمي من خلال مشاريع التمكين الاقتصادي، وما الذي يجب أن تلحظه هذه المشاريع كي تحقق أهدافها المرجوة لتحقيق التمكين الإقتصادي الفعلي للنساء.
خمسة عقود من التهميش والإقصاء
عانت النساء السوريات كغالبية الشعب السوري، وإن بشكل مضاعف، من سياسات التهميش والإفقار الممنهجة التي يتبعها النظام الحاكم، حيث سلبهن حقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، بل وعمل طوال خمسة عقود على تشويه مكانة النساء وتكريس إقصاؤهن وفقرهن ورسم صورة نمطية ضعيفة لهن. ويعزى ذلك إلى العادات والتقاليد، والسياسات الاقتصادية، والقوانين التمييزية.
وبالنظر إلى الإحصاءات الرسمية بحسب مكتب الإحصاء المركزي في سوريا، نرى بأن نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة الوطنية لم تتجاوز 13٪ عام 2010، إلا أن الإشكالية تكمن في عدم دقة هذه الإحصاءات الرسمية كونها لا تشمل النساء العاملات في الإقتصاد الرعائي أو العمل المنزلي أو الدعم المجتمعي، وتالياً، لا تلحظ القيمة الإقتصادية للعمل الذي يقمن به. وبالتالي لا تحتسب مشاركتهن الإقتصادية ضمن القوى العاملة.
ومع انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، وجدت النساء الفرصة لانتزاع حقوقهن، فأخذن دورهن وشاركن بالتظاهر والعمل الإنساني والحقوقي والإعلامي والسياسي والمجتمعي. إلا أن تحوّل الحراك الشعبي في سوريا إلى نزاع مسلح، جعل النساء يدفعن أثمان مضاعفة، نتيجة لمختلف أشكال العنف الممارس ضدهن، لا سيما العنف الجنسي، فهن اليوم مهددات بجوع وقهر واستغلال.
على الرغم من ذلك، استمرت النساء السوريات بإصرار في النضال لمواجهة مجتمع أبوي ذكوري وأنظمة قمع وتهميش أخرى منعت عن النساء حقوقهن وحرياتهن، وحرمتهن من التعليم والوصول إلى الموارد، ووضعت قيوداً على حركتهن، وحدت من فرص العمل، مما زاد من هشاشتهن الاقتصادية وعزز من إقصائهن.
أضافت ظروف الحرب أيضاً منحىً جديداً إلى نضال النساء السوريات، يتمثل في تحمل مسؤوليات اقتصادية مركبة، مع غياب المعيل التقليدي وتحول قسم كبير منهم إلى الإعاقة الجسدية في معظم الأحيان، خاصة في المناطق الشمالية الغربية الخارجة عن سيطرة النظام. فقد فرضت الأوضاع الاقتصادية السيئة العمل على النساء بشكل لم يألفه المجتمع السوري التقليدي، بهدف ﺘﺄﻣﻴﻦ ﻣﺴﺘﻠﺰﻣﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ في ظل ظروف بالغة القسوة والشدة. وتخلل ذلك محاولات من منظمات المجتمع المدني في تلك المناطق لملء الفراغ نتيجة غياب مؤسسات الدولة، فقدمت الخدمات وفرص العمل بدرجة أقل.
برامج التمكين الاقتصادي – النساء كإمتداد للأسر وليس كمواطنات لديهن حقوق
مع استقرار المعارك نهاية عام 2018، بدأت المنظمات تولي أهمية لبرامج بناء القدرات ودعم سبل العيش عبر توفير منح لتأسيس مشاريع فردية كمشاريع التدريب المهني والنقد مقابل العمل (على سبيل المثال، العمل في قطاف المحاصيل أو الحياكة مقابل مبلغ نقدي للنساء). وتعتبر المنظمات التي ترعى هذه البرامج بأن لهذا النوع من المشاريع دور في رفع مستوى المعيشة والحد من الفقر وخفض معدلات البطالة حيث يتم توزيع منتجات النساء للمجموعات الأكثر هشاشة كالأطفال مثلاً. وعلى الرغم من أن هذه الجهود لا تستهدف النساء بشكل خاص، إلا أنها تبذل جهدًا لإدماجهن ضمنها، حيث تُصمم معايير الاختيار غالباً بشكل يتيح فرصاً أكبر للنساء.
لكن، ومن خلال عملي مع النساء، اتضح أن هذه البرامج لم ترق لأن تكون تمكينا اقتصاديا للنساء ككل بل اقتصرت على تمكين فئة معينة منهن – النساء المعيلات. واعتمدت آلية الاختيار للمستفيدات من هذه المشاريع على معايير “الضعف والهشاشة” بوصفهن معيلات للأسر في حال كن فاقدات للمعيل، أو كان الرجل-المعيل في حالة إعاقة. ومن ضمن الفئات التي استهدفتها هذه البرامج أيضاً النساء المطلقات والأرامل في حال وجود الأطفال.
شملت هذه البرامج دمج النساء الفقيرات غير العاملات ممن فقدن عائل الأسرة في مشاريع متناهية الصغر أو صغيرة بهدف ضمان دخل شهري يكون متناسب مع السياق الاجتماعي والقدرات المهنية للنساء خاصة ذوات المستوى التعليمي المنخفض. حيث ركزت المعايير على دعم الأسرة وليس دعم حق النساء في التمكين وفي الوصول إلى سوق العمل والمشاركة بعملية الإنتاج وحقهن بأن تكون مختلف أدوارهن ملحوظة بالإقتصاد الرسمي. وهكذا، أعادت هذه البرامج فرز الأدوار الجندرية التقليدية منطلقةً في مقاربتها من منظور ذكوري ضيق لا يزال ينظر للنساء كامتداد للأسر وليس كمواطنات مستقلات لهن حقوق ومستحقات يجب تحقيقها والحفاظ عليها ضمن هذه المنظومات الأسرية وخارجها.
كما اقتصرت هذه المقاربات على زيادة الدور الإنتاجي لبعض فئات النساء، دون النظر بشكل هيكلي إلى القيمة الإقتصادية لعملهن الرعائي أو المنزلي أو المجتمعي، حيث مقولة أن “النساء لا يعملن” هي مجرد بدعة، إذ تؤدي النساء أدواراً مركبة عدة سوءاً رعائية أو منزلية أو مجتمعية من حيث الأنشطة المجتمعية أو الرعاية الصحية.
وعليه، فإن الإشكالية الحقيقية، من ناحية، تكمن في عدم تثمين هذه الأعمال والأدوار والنظرة المجتمعية الدونية لها بحيث تبقى خارج مؤشرات النمو الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، لم تلحظ هذه المشاريع الأدوار المضاعفة والأعباء المتزايدة التي وقعت على كاهل النساء، حيث لم يتم النظر بشكل هيكلي إلى تغيير الهياكل الإقتصادية القائمة بل إقحام النساء في سوق العمل دون النظر إلى أوضاعهن ومواقعهن والتحديات التي يواجهنها.
علاوة على ذلك، لا تأخذ طبيعة هذه التدخلات عامل رفاهية النساء الاقتصادية، وإنما تكتفي بدعم الأسرة وليس النساء، والوصول لتوفير الاحتياجات الأساسية وبالحد الأدنى، مما يمنع النساء من تحقيق رفاههن ولو بشكل جزئي.
أدوار النساء الإنتاجية كامتداد لأدوارهن الرعائية
ما زالت النساء السوريات بشكل عام يمارسن أعمالاً تقليدية تكرس الأدوار النمطية التي فرضتها السلطة الأبوية والعادات والتقاليد، كالعمل في الوظائف المكتبية أو تلك التي فرضتها الحاجة لتعامل النساء مع النساء. وإن استطاعت بعض النساء السير خطوة باتجاه امتلاك الأعمال، من خلال الحصول على منح لتأسيس مشروعهن الفردي، ولكن يبقي عدد لا بأس به ضمن إطار المشاريع المنزلية، والمهن التقليدية كالخياطة والحلاقة النسائية وحياكة الصوف وصناعة الألبان والأجبان بطرق منزلية، وبعض الصناعات اليدوية، سواء كان برغبتهن أو امتثالًا لعادات المجتمع التي تكرس مكان النساء في الحيز الخاص والمنزل، أو لأن هذه الفرص محصورة بمشاريع لا يمكن تنفيذها سوى من ضمن المنزل – الحيز الخاص.
كما لا تزال نسبة المشاركات ببرامج المنح قليلة، وذلك بسبب خوف البعض منهن من تحمل هذه المسؤولية، وعدم بناء معرفتهن المالية ووعيهن بأهمية العمل المنتج وجدوى هذه المشاريع وتأثيرها على حياتهن ومستقبلهن. فالمرأة حديثة العهد في سوق العمل، إضافة لمحدودية خبراتها المهنية، وصعوبة فصلها عن الظروف الاجتماعية والثقافية التي تحكم حياتها، وكذلك فكرة الاحتفاء بصورة الأم السلبية، تلك المضحية بنفسها من أجل الحفاظ على الزواج، أو وهم حماية الأسرة مقابل سلامتها وسعادتها، مدفوعة بالرغبة في إرضاء من حولها.
التمكين الإقتصادي من منظور نسوي هيكلي
من أجل تمكين المرأة السورية اقتصاديًا، يجب أن تقترن برامج المنح بسياسات تتحدى الهياكل التمييزية كالأعراف الأبوية على المستوى المجتمعي والاقتصادي والمنزلي، فلا تزال النساء يحملن عبء العمل المنزلي مع غياب مفهوم المشاركة، لأنهن لم يحصلن على التغيير الهيكلي بالشكل المطلوب، لا مجتمعيًا ولا عائليًا، ولا من خلال استهدافهن ودخولهن سوق العمل. لم تتمكن النساء من تحقيق حريتهن واستقلالهن. رغم التغير الطفيف في نظرة الرجال لعمل النساء إلا أنهم (أي الرجال) هم من يقررون ماذا تفعل النساء، وكيف، ومتى، وهم من يحددون الشروط. لذا تشعر غالبية النساء بعدم الاستقرار والأمان، ويسعين بكل ما أتيح لهن للدفاع عما حققتنه من مكتسبات.
لهذا نجد أن واقع النساء في سوريا لا يزال بعيدًا عن الهدف الحقيقي للتمكين، من حيث دعم وصولهن للموارد الاقتصادية والتحكم بها، والقدرة على الإدارة، واتخاذ القرارات الاقتصادية وصولًا إلى الاستقلال الاقتصادي، وزيادة المشاركة في التنمية والعمل في الشأن العام.
وتستمر المرأة السورية في ثورتها وتستمر المرأة السورية في ثورتها
برغم كل ما سبق من تحديات، فإن النساء في سوريا بقوتهن الذاتية يستثمرن في التغيرات التي فرضتها الحرب. وأصبحت النساء يلاحظن تهميشهن واستغلالهن والعنف الممارس ضدهن لا سيما العنف الاقتصادي. وعليه، بدأ وعيهن وفهمهن لحقوقهن ولما يدور حولهن يتسع، وبدأن التفكير بذلك عبر البحث عن فرصهن الحقيقية، والشعور بقيمتهن الإنسانية، فيكتشفن مهاراتهن، ويحددن ما يمكنهن فعله بل وما يردن تحقيقه، لأنهن لمسن تطور مكانتهن وما اكتسبنه من خبرات. ذلك لأن النساء دائما يقارن وضعهن الحالي بالسابق وبالنساء الأخريات في العائلة والمحيط، فيشعرن بقيمة تقدمهن ويعتبرنه خطوة في طريق نضالهن لنيل حقوقهن ورفع التمييز ضدهن.
كما تسعى النساء للمحافظة على هذه المستحقات والمكتسبات في الفترات القادمة، حيث أنه بعد انتهاء الحروب أو النزاعات، غالباً ما يُتوقع من النساء العودة إلى ممارسة أدوارهن التقليدية، والمساومة على اية مكتسبات قمن بتحقيقها خلال النزاعات والحروب. وتنطلق هذه المشاهدات من كون التغيير الذي حدث على أدوار النساء جاء نتيجة الحاجة وليس نتيجة تغيير هيكلي شامل، ما يجعل المساومة عليه وفقدانه أكثر رجوحاً.
تستمر النساء في سوريا في ثورتهن ضد واقعهن، بأدوات لا زالت بسيطة. ويسعين بجهد للحفاظ على مكتسباتهن وأدوارهن الجديدة، والبناء عليها ليكون ما حققنه خطوة أولى ولكن ثابتة لمواجهة العنف الاقتصادي باتجاه تحقيق العدالة الجندرية في المشاركة الاقتصادية.
ويبقى السؤال عن دور المجتمع المدني ودورنا كنسويات وكمنظمات نسوية. فعلينا العمل على برامج التمكين الاقتصادي من منظور حقوقي هيكلي، والتفكير بتوسيع المشاريع الجماعية أو التعاونية للنساء كي لا يكون الإنخراط بالأعمال الإنتاجية أو المدرة للدخل مجرد أداة من شأنها مضاعفة أعبائهن المنزلية والأسرية والإجهاد العاطفي وزيادة عزلتهن الإجتماعية، حيث وبسبب مضاعفة الأعباء، تصبح النساء أقل تواصلاً مع المحيط حتى الأقارب والأصدقاء. هذا بالإضافة إلي ضرورة تطوير أدوات المقاومة والمواجهة بحيث يكون التمكين الاقتصادي هو الأداة التي ستدفع النساء لمجابهة أنظمة وهياكل التمييز وللتصرف وبناء خططهن باتجاه تحقيق أهدافهن.
سألنا بعض الناشطات/ين النسويات/ين في سوريا عن رأيهن/م ببرامج التمكين الاقتصادي في شكلها الحالي وكيف يمكن تحسينها. إستمع/ي إلى مشاركاتهم/ن:
هل تريد/ين المزيد؟
دليل رابطة النساء الدولية للسلام والحرية للاقتصاد السياسي النسوي
يقدم هذا الدليل بعض المعلومات حول كيف يمكن للإقتصاد السياسي النسوي تعزيز التحليل النسوي للأسباب الجذرية للنزاع ووضع مسارات مستقبلية لتحقيق السلام المستدام.
ويبينار – الاقتصاد السياسي النسوي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: البدائل النسوية في ظل فشل السياسات الرأسمالية
في هذا النقاش حول الاقتصاد السياسي النسوي ضمن سياق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تناولت خبيرات وناشطات نسويات الأسباب الجذرية لتردي الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، أبرز التحديات وما المطلوب تغييره في ظل المقاربات الحالية التي تفتقر إلى المنظور النسوي، وكيف يمكن للمقاربة النسوية للاقتصاد السياسي في سياقات النزاع وما بعد النزاع أن تساهم في تحقيق السلام النسوي.
- Main Photo Caption: في محاولة لحماية الفتيات والنساء من القرصنة الإلكترونية التي تحدث كثيرا في ورش إصلاح الأجهزة المحمولة، ولمساعدتهن على الدخول في مجال يسيطر عليه الرجال بشكل أساسي، أطلقت مؤسسة عدل وتمكين، وهي منظمة نسوية غير حكومية وغير ربحية تعمل في سوريا ودول الجوار دورة تدريبية للسيدات لتعلم كيفية إصلاح الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة.